فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَلاَ تَسْتَوِى الحسنة وَلاَ السيئة} جملة مستأنفة سيقت لبيان محاسن الأعمال الجارية بين العباد إثر بيان محاسن الأعمال الجارية بين العبد والرب عز وجل ترغيبًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الصبر على أذية المشركين ومقابلة إساءتهم بالإحسان، والحكم عام أي لا تستوي الخصلة الحسنة والسيئة في الآثار والأحكام، و{لا} الثانية مزيدة لتأكيد النفي مثلها في قوله تعالى: {وَلاَ الظل وَلاَ الحرور} [فاطر: 21] لأن استوى لا يكتفي بمفرد وقوله تعالى: {ادفع بالتى هي أَحْسَنُ} استئناف مبين لحسن عاقبة الحسنة أي ادفع السيئة حيث اعترضتك من بعض أعاديك بالتي هي أحسن منها وهي الحسنة على أن المراد بالأحسن الزائد مطلقًا أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات كالإحسان إلى من أساء فإنه أحسن من مجرد العفو فأحسن على ظاهره والمفضل عليه عام ولذا حذف كما في الله تعالى أكبر، وإخراجه مخرج الجواب عن سؤال من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة والإشارة إلى أنه مهم ينبغي الاعتناء به والسؤال عنه، وللمبالغة أيضًا وضع {أَحْسَنُ} موضع الحسنة لأن من دفع بالأحسن هان عليه الدفع بما دونه، ومما ذكرنا يعلم أن ليس المراد بالحسنة والسيئة أمرين معينين.
وعن علي كرم الله تعالى وجهه الحسنة حب الرسول وآله عليهم الصلاة والسلام والسيئة بغضهم، وعن ابن عباس الحسنة لا إله إلا الله والسيئة الشرك، وقال الكلبي: الدعوتان إليهما، وقال الضحاك: الحلم والفحش، وقيل: الصبر، وقيل: المدارة والغلظة، وقيل غير ذلك، ولا يخفى أن بعض المروي يكاد لا تصح إرادته هنا فلعله لم يثبت عمن روى عنه، وجوز أن يكون المراد بيان تفاوت الحسنات والسيئات في أنفسهما بمعنى أن الحسنات تتفاوت إلى حسن وأحسن والسيئات كذلك فتعريف الحسنة والسيئة للجنس و{لا} الثانية ليست مزيدة وأفعل على ظاهره، والكلام في {ادفع} إلخ على معنى الفاء أي إذا كان كل من الجنسين متفاوت الافراد في نفسه فادفع بأحسن الحسنتين السيء والأسوأ، وترك الفاء للاستئناف الذي ذكرنا وهو أقوى الوصلين ولعل الأول أقرب {فَإِذَا الذي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِىٌّ حَمِيمٌ} بيان لنتيجة الدفع المأمور به أي فإذا فعلت ذلك صار عدوك المشاق مثل الولي الشفيق.
قال ابن عطية: دخلت {كَانَ} المفيدة للتشبية لأن العدو لا يعدو وليًا حميمًا بالدفع بالتي هي أحسن وإنما يحسن ظاهره فيشبه بذلك الولي الحميم؛ ولعل ذلك من باب الاكتفاء بأقل اللازم وهذا بالنظر إلى الغالب وإلا فقد تزول العداوة بالكلية بذلك كما قيل:
إن العداوة تستحيل مودة ** بتدارك الهفوات بالحسنات

و{الذى بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ} أبلغ من عدوك ولذا اختير عليه مع اختصاره، والآية قيل: نزلت في أبي سفيان ابن حرب كان عدوًا مبينًا لرسول الله صلى الله عليه وسلم فصار عند أهل السنة وليًا مصافيًا وكأن ما عنده انتقل إلى ولد ولده يزيد عليه من الله عز وجل ما يستحق.
{وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا وَمَا يُلَقَّاهَا إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35)} {وَمَا يلقاها} أي ما يلقى ويؤتي هذه الفعلة والخصلة الشريفة التي هي الدفع بالتي هي أحسن فالضمير راجع لما يفهم من السياق، وجوز رجوعه للتي هي أحسن، وحكى مكي أن الضمير لشهادة أن لا إله إلا الله فكأنه أرجع للتي هي أحسن وفسرت بالشهادة المذكورة ومع هذا هو كما ترى، وقيل: الضمير للجنة وليس بشيء.
وقرأ طلحة وابن كثير في رواية {وَمَا يلقاها} من الملاقاة {إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} أي الذين فيهم طبيعة الصبر وشأنهم ذلك {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} ذو نصيب عظيم من خصال الخير وكمال النفس كما روى عن ابن عباس، وقال قتادة: ذو حظ عظيم من الثواب، وقيل: الحظ العظيم الجنة، وعليهما فهو وعد وعلى الأول هو مدح، وكرر {وَمَا يُلَقَّاهَا} تأكيدًا لمدح تلك الفعلة الجملة الجليلة ولأوحد أهل عصره الذي بخل الزمان أن يأتي بمثله صالح أفندي كاتب ديوان الإنشاء في الحدباء في هذه الآية عبارة مختصرة التزم الدقة فيها رحمة الله تعالى عليه وهي قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} الآية يمكن أن يؤخذ من الأول ما هو من أول الأول لا الثاني للاتفاق فيتحقق الاشرف بعد إعطاء المقام حقه فيتحقق الحابس أنه مجدود فيقف عند الحد المحدود انتهت.
وأراد والله تعالى أعلم أنه يمكن أن يؤخذ من الأول أي قوله تعالى: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ الذين صَبَرُواْ} ومن الثاني وهو قوله سبحانه: {وَمَا يُلَقَّاهَا إِلاَّ ذُو حَظّ عَظِيمٍ} ما أي شكل هو من أول ضروب الشكل الأول الأربعة وهو قياس منه مركب من موجبتين كليتين ينتج موجبة كلية بأن يقال: كل صابر هو الذي يلقاها وكل من يلقاها فهو ذو حظ عظيم ينتج كل صابر هو ذو حظ عظيم، ولا يمكن أن يؤخذ قياس من الشكل الثاني للاتفاق في الكيف وشرط الشكل الثاني اختلاف المقدمتين فهي كما هو مقرر في محله فيتحقق بعد الأخذ وتركيب المقدمتين الأمر الأشرف أي النتيجة التي هي موجبة كلية وهي أشرف المحصورات الأربع لاشتمالها على الإيجاب الأشرف من السلب والكلية الأشرف من الجزئية بعد إعطاء المقام حقه من جعل الموصول للاستغراق كما أشير إليه ليفيد الكلية فعند ذلك يتحقق ويعلم الحابس أي الصابر أنه مجدود أي ذو جد وحظ فيقف عند الحد المحدود ولا يتجاوز من الصبر إلى غيره.
{وَإِمَّا يَنَزَغَنَّكَ مِنَ الشيطان نَزْغٌ} النزغ النخس وهو المس بطرف قضيب أو أصبع بعنف مؤلم استعير هنا للوسوسة الباعثة على الشر وجعل نازغًا للمبالغة على طريقة جد جد فمن على هذا ابتدائية، ويجوز أن يراد به نازغ على أن المصدر بمعنى اسم الفاعل وصفا للشيطان فمن بيانية والجار والمجرور في موضع الحال أو هي ابتدائية أيضًا لكن على سبيل التجريد، وجوز أن يكون المراد بالنازغ وسوسة الشيطان و{إن} شرطية و{مَا} مزيدة أي وإن ينزغنك ويصرفنك الشيطان عما وصيت به من الدفع بالتي هي أحسن {فاستعذ بالله} من شره ولا تعطه {أَنَّهُ} عز وجل {هُوَ السميع} فيسمع سبحانه استعاذتك {العليم} فيعلم جل شأنه نيتك وصلاحك، وقيل: السمع لقول من أذاك العليم بفعله فينتقم منه مغنيًا عن انتقامك، وقيل: العليم بنزغ الشيطان، وفي جعل ترك الدفع من آثار نزغات الشيطان مزيد تحذير وتنفير عنه، ولعل الخطاب من باب إياك أعني واسمعي يا جاره.
وجوز أن يراد بالشيطان ما يعم شيطان الإنس فإن منهم من يصرف عن الدفع بالتي هي أحسن ويقول: إنه عدوك لذي فعل بك كيت وكيت فانتهز الفرصة فيه وخذ ثأرك منه لتعظم في عينه وأعين الناس ولا يظن فيك العجز وقلة الهمة وعدم المبالاة إلى غير ذلك من الكلمات التي ربما لا تخطر أبدًا ببال شيطان الجن نعوذ بالله تعالى السميع العليم من كل شيطان، وفسر عبد الرحمن بن زيد النزغ بالغضب واستدل بالآية على استحباب الاستعاذة عنده.
وقد روى الحاكم عن سليمان بن صدر قال: «استب رجلان عند النبي صلى الله عليه وسلم فاشتد غضب أحدهما فقال النبي عليه الصلاة والسلام: إني لأعلم كلمة لو قالها لذهب عنه الغضب أعوذ بالله من الشيطان الرجيم فقال الرجل: أمجنونًا تراني؟ فتلا رسول الله صلى الله عليه وسلم وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله» ولعل الغضب من آثار الوسوسة.
{وَمِنْ ءاياته} الدالة على شؤنه الجليلة جل شأنه: {وَسَخَّر لَكُمُ} في حدوثهما وتعاقبهما وإيلاج كل منهما في الآخر {والشمس والقمر} في استنارتهما واختلافهما في قوة النور والعظم والآثار والحركات مثلًا، وقدم ذكر الليل قيل: تنبيهًا على تقدمه مع كون الظلمة عدمًا، وناسب ذكر الشمس بعد النهار لأنها آيته وسبب تنويره ولأنها أصل لنور القمر بناء على ما قالوا من أنه مستفاد من ضياء الشمس، وأما ضياؤها فالمشهور أنه غير طارىء عليها من جرم آخر، وقيل: هو من العرش، والفلاسفة اليوم يظنون أنه من جرم آخر وادعوا أنهم يرون في طرف من جرم الشمس ظلمة قليلة {لاَ تَسْجُدُواْ لِلشَّمْسِ وَلاَ لِلْقَمَرِ} لأنها من جملة مخلوقاته سبحانه وتعالى المسخرة على وفق إرادته تعالى مثلكم {واسجدوا لِلَّهِ الذي خَلَقَهُنَّ} الضمير قيل للأربعة المذكورة والمقصود تعليق الفعل بالشمس والقمر لكن نظم معهما الليل والنهار إشعارًا بأنهما منم عداد ما لا يعلم ولا يختار ضرورة أن الليل والنهار كذلك ولو ثنى الضمير لم يكن فيه أشعار بذلك.
وحكم جماعة ما لا يعقل على ما قال الزمخشري حكم الأنثى فيقال: الأقلام بريتها وبريتهن فلا يتوهم أن الضمير لما كان لليل والنهار والشمس والقمر كان المناسب تغليب الذكور، والجواب بأنه لما كن من الآيات عدت كالأناث تكلف عنه غني بالقاعدة المذكورة.
نعم قال أبوحيان: ينبغي أن يفرق بين جمع القلة من ذلك وجمع الكثرة فإن الأفصح في الأول أن يكون بضمير الواحدة تقول الأجذاع انكسرت على الأفصح والأفصح في الثاني أن يكون بضمير الأناث تقول الجذوع انكسرن وما في الآية ليس بجمع قلة بلفظ واحد لكنه منزل منزلة المعبر عنه به، وقيل: الضمير للشمس والقمر والأثنان جمع وجمع ما لا يعقل يؤنث، ومن حيث يقال شموس وأقمار لاختلافهما بالأيام والليالي ساغ أن يعود الضمير إليهما جمعًا، وقيل: الضمير للآيات المتقدم ذكرها في قوله تعالى: {وَمِنْ ءاياته} {إِن كُنتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ} فإن السجود أقصى مراتب العبادة فلابد من تخصيصه به عز وجل، وكان علي كرم الله تعالى وجهه وابن مسعود يسجدان عند {تَعْبُدُونَ} ونسب القول بأنه موضع السجدة للشافعي، وسجد عند {لاَ يَسْئَمُونَ} ابن عباس وابن عمر وأبو وائل وبكر بن عبد الله، وكذلك روى عن ابن وهب ومسروق والسلمي والنخعي وأبي صالح وابن وثاب والحسن وابن سيرين وأبي حنيفة رضي الله تعالى عنهم، ونقله في التحرير عن الشافعي رضي الله تعالى عنه.
وفي الكشف أصح الوجهين عند أصحابنا يعني الشافعية أن موضع السجدة {لاَ يَسْئَمُونَ} كما هو مذهب الإمام أبي حنيفة، ووجهه أنها تمام المعنى على أسلوب اسجد فإن الاستكبار عنه مذموم، وعلله بعضهم بالاحتياط لأنها إن كانت عند {تَعْبُدُونَ} جاز التأخير لقصر الفصل، وإن كانت عند {يَسْئَمُونَ} لم يجز تعجيلها.
{فَإِنِ استكبروا} تعاظموا عن اجتناب ما نهوا عنه من السجود لتلك المخلوقات وامتثال ما أمروا به من السجود لخالقهن فلا يعبأ بهم أو فلا يخل ذلك بعظمة ربك {فالذين عِندَ رَبّكَ} أي في حضرة قدسه عز وجل من الملائكة عليهم السلام الذين هم خير منهم {يُسَبّحُونَ لَهُ بالليل والنهار} أي دائمًا وإن لم يكن عندهم ليل ونهار {وَهُمْ لاَ يَسْئَمُونَ} لا يملكون ذلك، وجواب الشرط في الحقيقة ما أشرنا إليه أو نحوه وما ذكر قائم مقامه، ويجوز أن يكون الكلام على معنى الاخبار كما قيل في نحو إن أكرمتني اليوم فقد أكرمتك أمس إنه على معنى فأخبرك إني قد أكرمتك أمس.
وقرئ {لاَ يَسْئَمُونَ} بكسر الياء، والظاهر أن الآية في أناس من الكفرة كانوا يسجدون للشمس والقمر كالصابئين في عبادتهم الكواكب ويزعمون أنهم يقصدون بالسجود لهما السجود لله تعالى فنهوا عن هذه الواسطة وأمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه الله تعالى خالصًا.
واستدل الشيخ أبو إسحاق في المهذب بالآية على صلاتي الكسوف والخسوف قال: لأنه لا صلاة تتعلق بالشمس والقمر غيرهما وأخذ من ذلك تفضيلهما على صلاة الاستسقاء لكونهما في القرآن بخلافها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَلَا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلَا السَّيِّئَةُ} عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب، فإنه يجوز أن يكون عطفًا على جملة {وَمَن أحْسَنُ قَوْلًا مِمَّن دَعَا إلى الله} [فصلت: 33] إلخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء} [غافر: 58]، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض.
ويجوز أن تكون عطفًا على جملة {وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون} [فصلت: 26] الواقعة بعد جملة {وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه} [فصلت: 5] إلى قوله: {فاعمل إننا عاملون} [فصلت: 5] فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله: {ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة} الآية.
فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادرًا إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة.
فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها {ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ} الآية.
وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالبًا تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى: {أفمن كان مؤمنًا كمن كان فاسقًا لا يستوون} [السجدة: 18].
وقوللِ الأعشى:
ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذي ** جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِببِ الماطر

مِثلَ الفُراتيِّ إذَا مَا طَمَا ** يَقْذِفُ بالبُوصِيِّ والماهرِ

فكان مقتضى الظاهر أن يقال: ولا تستوي الحسنة والسيئة، دون إعادة {لا} النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى: {وما يستوي الأعمى والبصير} [غافر: 58]، فإعادة {لا} النافية تأكيد لأختها السابقة.
وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام، تقديره: وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة.
فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوىء السيئة، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة.
وذلك هو الاستواء في الخصائص، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين: جنسسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر.
وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله: {ادْفَع بالتي هي أحسن}، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله: {ادْفَعَ بالتي هي أحسن}.
وقوله: {ادْفَعَ بالتي هي أحسن} يجري موقعُه على الوجهين المتقدمين في عطف جملة {ولا تستوي الحسنة ولا السيئة}.
فالجملة على الوجه الأول من وجهي موقع جملة {ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة} تخلص من غرض تفضيل الحسنة على السيئة إلى الأمر بخُلق الدفع بالتي هي أحسن لمناسبةِ أَن ذلك الدفع من آثار تفضيل الحسنة على السيئة إرشادًا من الله لرسوله وأمته بالتخلق بخلق الدفع بالحسنى.
وهي على الوجه الثاني من وجهيْ موقع جملة {ولاَ تَسْتَوي الحسنة ولا السيئة} واقعة موقع النتيجة من الدليل والمقصدِ من المقدمة، فمضمونها ناشىء عن مضمون التي قبلها.
وكلا الاعتبارين في الجملة الأولى مقتض أن تكون جملة {ادفَع بالتي هي أحْسَن} مفصولة غير معطوفة.
وإنما أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بذلك لأن منتهى الكمال البشري خُلُقُه كما قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق».
وقالت عائشة لما سئلت عن خلُقه «كان خلقه القرآن» لأنه أفضل الحكماء.
والإحسان كمال ذاتي ولكنه قد يكون تركه محمودًا في الحدود ونحوها فذلك معنىً خاص.
والكمال مطلوب لذاته فلا يعدل عنه ما استطاع ما لم يخش فوات كمال أعظم، ولذلك قالت عائشة: «ما انتقم رسول الله صلى الله عليه وسلم لنفسه قط إلاّ أن تُنتهك حرمات الله فيغضب لله».
وتخلُّقُ الأمة بهذا الخلق مرغوب فيه قال تعالى: {وجزاء سيئة سيئة مثلها فمن عفا وأصلح فأجره على اللَّه} [الشورى: 40].
وروى عياض في الشفاء وهو مما رواه ابن مردويه عن جابر بن عبد الله وابنُ جرير في تفسيره لما نزل قوله تعالى: {خذ العفو} [الأعراف: 199] سألَ النبيءُ صلى الله عليه وسلم جبريلَ عن تأويلها فقال له: حتى أسأل العالِم، فأتاه فقال: «يا محمد إن الله يأمرك أن تَصِل من قطعك وتُعطيَ من حَرمَك وتعفوَ عمن ظلمك».